من هم الإسرائيليون , ومن هم الفلسطينيون؟ - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


من هم الإسرائيليون , ومن هم الفلسطينيون؟
وما هي علاقتهم بأرض كنعان؟
ابن زاهدي – 13\03\2009

بلاد الشام

حينما يتحدث العرب عن القدس وفلسطين , يتوقفون عند دخول الإسلام إليها في القرن السادس الميلادي , وكأن تاريخ هذه الأمة نزل في غار حراء مع نزول القرآن. هنا صلّى عمر , وهنا امتطى الرسول بُراقه , وهنا بنى ابن مروان الأموي قبة, وهناك رمم العباسي والمملوكي والعثماني مسجد…ويتركون ما تبقى من تاريخ المنطقة لليهود , ليعطونهم إما عن قصد وإما عن جهل حق الأسبقية لأرض كنعان قلب بلاد الشام , أو لربما تخجل العرب من العودة إلى أصولها الوثنية أو اليهودية العبرية .

وعندما يتكلم اليهود عنها يقولون نحن أصحاب الأرض قبل أن تدوسها قدم عربية , ويحفرون وينقبون , ويزورون الآثار لإثبات ما يدعون .

ما زلت أذكر مقام النبي الخضر فوق نبع بانياس عندما برزت بين ليلة وضحاها فوق مدخل الشرفة الأمامية نجمة داوود محفورة على الحجر الكلسي بدقة متناهية ومعالجة بالأسيد لكي تبدو وكأنها قديمة قدم البناء الروماني نفسه , ولكن صاحب المقام رفض الزور والنفاق , ولم يمض أشهر حتى جاءت ليلة شتاء عاصفة, برق ورعد مرعب لم أرى له مثيل من قبل ولا من بعد, وفي اليوم التالي وصلت الأخبار بأن الشرفة الأمامية من مقام السيد الخضر قد تهدمت دون أن يمس الدمار المقام نفسه . سقطت الشرفة التي يعود تاريخ بنائها إلى العهد الروماني وسقطت نجمة داوود معها. معجزة أو صدفة؟ .. أتركها لصانعها . ولكنني أوردت هذه الرواية كشاهد عيان على عمل دؤوب لتزوير الهوية التاريخية للمنطقة.

والآن ! دعنا نأخذ موقف الحياد , ونتخلى عن العنصرية الدينية والعرقية , ونعود إلى التاريخ لنتتبع الشعوب والقبائل التي سكنت تلك المنطقة منذ فجر التاريخ المعروف وحتى يومنا هذا.

فلو بدأنا في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد حيث بدأت الكتابة تتطور لوجدنا بأن هذه المنطقة كانت مأهولة من قبائل سامية تدعى القبائل الكنعانية, هذه القبائل خرجت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت في المنطقة الغربية من الهلال الخصيب, المحصورة بين البحر المتوسط غرباً ووادي الأردن وجبال لبنان شرقاً حتى صحراء النقب جنوباً ولواء اسكندرونة شمالاً.

في بداية الألف الثانية قبل الميلاد بدأت هذه القبائل بسبب الاحتكاك مع جيرانها تطور إلى جانب الرعي طرق حياة جديدة ومختلفة, فالمنطقة الشمالية تأثرت بالثقافة ونمط الحياة السائد في منطقة ما بين النهرين وآسيا الصغرى (تركيا) , وهناك مؤشرات تاريخية تشير إلى هجرة أخرى إلى شمال كنعان من منطقة " أور" قرب ما يعرف الآن بالخليج العربي أو الفارسي, وهذه القبائل كانت متخصصة بالملاحة والتجارة وصناعة الخزف, وأطلق عليهم اليونان لقب الفونيق ( ومعناها الأحمر باللغة اليونانية) لأنهم كانوا يصنعون اللون الأحمر و يستخدمونه بكثرة في زخرفة صناعتهم وسفنهم , وأصبح اسمهم يطلق على المنطقة الشمالية من أرض كنعان الممتدة من خليج اسكندرونه شمالاً إلى جبل الكرمل جنوباً (المنطقة الفينيقية) , ولكن الفينيقيين أنفسهم لم يذكروا في مخطوطاتهم اسم الفينيق , بل يطلقون على أنفسهم اسم كنعان , ومن المرجح بأن التسمية اليونانية تغلبت لاحقاً على الاسم الحقيقي بسبب انتشار اللغة والثقافة اليونانية في المنطقة بعد احتلالها على يد اسكندر المقدوني 300 قبل الميلاد وحتى دخول الإسلام 700 بعد الميلاد. أما المنطقة الجنوبية الممتدة من منحدر جبل حرمون شمالاً حتى صحراء النقب جنوباً إلى البحر الميت ووادي الأردن شرقاً بقيت تحمل اسم "أرض كنعان" بالرغم من أن الرومان أطلقوا عليها "فلسطين " نسبة إلى قبائل الفلسطين التي كانت تسكن شريط ضيق من الساحل الجنوبي (منطقة أشدود وعسقلان), وهذه القبائل الكنعانية كانت تعتمد في حياتها على الرعي والزراعة, وتطور فيها نظام اجتماعي قائم على دويلات المدن, أي أن كل مدينة كانت تحكم نفسها بنفسها , وغالباً ما كانت في صراع مع جيرانها.

مدينة أورشليم كان يسكنها قبيلة كنعانية تدعى قبيلة يابوس , وجميع الأدلة التاريخية والأثرية تشير إلى أن اليابوسيون هم الذين بنوا مدينة أورشليم وسكنوها مع المنطقة المحيطة بها حتى وصول العبريين إليها في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد.

في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد وصلت إلى الجنوب الغربي من أرض كنعان (المنطقة الممتدة من يافا إلى غزة ) قبائل غير سامية من الجزر المنتشرة في بحر إيجه (بين تركيا واليونان ) , هذه القبائل كانت تدعى "فلسطين" . وتمكنوا من توسيع المنطقة التي استوطنوها على حساب الكنعانيون بسبب مهارتهم في تصنيع الأسلحة المعدنية , ومن أهم المدن التي بنوها غزة وعسقلان وأشدود وعكرون وجث.

أما بالنسبة للجهة الشرقية من الهلال الخصيب فكان يسكنها السومريون , وفي النصف الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد وصلت إليها الهجرات السامية الأولى من شبه الجزيرة العربية , وأول القبائل التي وصلت كان العقاديون الذين لم يجدوا صعوبة في الاندماج مع السومريون, وفي 2300 قبل الميلاد تولى الملك سرجون الأول العقادي عرش مدينة أور ووحد منطقة ما بين النهرين تحت سلطته.

بين القبائل السامية التي كانت تسكن منطقة أور كان العموريون , ويعتقد بأن تارا والد إبراهيم الخليل الذي أصبح لاحقاً أباً للعبريين والعرب كان عمورياً . تارا خرج مع عائلته من مدينة أور بسبب خلاف ديني واتجه إلى حران (جنوب تركيا اليوم), ولكن ابنه إبراهيم قرر الرحيل من حران مع زوجته سارة وابن أخيه لوط مصطحبين خدمهم ومواشيهم باتجاه أرض كنعان حيث عاشوا متنقلين مع مواشيهم في المنطقة الواقعة جنوب وغربي البحر الميت. وخلال حياته تنقل إبراهيم ومن معه كثيراً, حيث يذكر بأنهم وصلوا إلى وادي النيل ومكة في شبه الجزيرة العربية . لقد رزق إبراهيم بولدين , إسماعيل من هاجر واسحق من سارة, وبسبب خلاف بين سارة وهاجر رحلت هاجر مع ابنها إسماعيل إلى شبه الجزيرة العربية حيث كبر اسماعيل ورزق إثني عشر ولداً تنتسب إليهم كثير من قبائل العرب . أما سارة واسحق بقيوا مع إبراهيم غربي البحر الميت حيث توفي إبراهيم ودفن في مغارة بنيت حولها لاحقاً مدينة أطلق عليها العبرانيون حبرون والعرب الخليل والمعنى واحد وهو صديق الله. بعد وفاة والده استقر إسحاق في منطقة بئر السبع( أو بئر سبأ ) على أطراف صحراء النقب إلى أن توفي ودفن إلى جانب والده. إسحاق تزوج من روبيكا وأنجب منها ولدين (توأم) عيساو ويعقوب. اختلف يعقوب مع أخيه وهرب إلى حران وبقي مدة طويلة هناك حيث تزوج مع أختين ليا وراحل من سلالة والدته. عيساو أصبح أباً للأدوميين الذين عاشوا جنوب البحر الميت, ويعقوب خلّف اثني عشر ولداً أصبحوا آباء للقبائل العبرية الإثنى عشر.

حوالي 1400 قبل الميلاد أصاب منطقة شرق البحر المتوسط جفاف وجوع , وكثير من شعوب المنطقة هاجرت باتجاه وادي النيل ومن بينهم أولاد يعقوب حيث مكثوا في مصر قرابة قرن ونصف , خلال الفترة الأخيرة منها أصبحوا عبيداً يعملون في بناء الأسوار والسدود إلى أن خرج قسم منهم مع موسى حوالي 1260 قبل الميلاد. وهنا تتضارب الآراء حول الهوية الحقيقية لأتباع موسى , هل كان جميعهم من العبريين , أم كانوا مجرد خليطاً من العبيد تبعوا موسى للتخلص من العبودية؟ وبعد حوالي 38 عاماً قضوها يتنقلون في صحراء سيناء وصلوا إلى الضفة الشرقية لوادي الأردن قرب مدينة أريحا . موسى توفي قبل أن يصل إلى أرض كنعان, وبعد موت موسى تولى قيادتهم رجل عنصري سفاح يدعى يشوع بن نون . يشوع وأتباعه عبروا نهر الأردن وبدأوا هجومهم على القرى والمدن الكنعانية في منطقة أريحا , لم يسلم من بطشهم أحد , كانوا يحرقون القرى والمدن والحقول بمن فيها ويدمرون البيوت على ساكنيها , يعقدون معاهدة صلح مع مدينة ليستفردوا ويبطشوا بجارتها , وما أن ينتهوا منها حتى ينقضوا عهدهم ويبطشوا بمن عاهدوه السلام قبل أيام , فدب الذعر في المنطقة بأكملها ورحل قسم كبير من سكانها هرباً من بطشهم وشناعتهم. ويذكر التاريخ بأن بعض من القبائل المورية التي تسكن شمال إفريقيا كانت قد هربت من أرض كنعان عبر مصر وعبر الموانئ الفينيقية هرباً من بطش العبريين في تلك الفترة , ولم يصمد في وجه العبريين إلا قبائل الفلسطين التي استمرت حروبها معهم حتى الألف الأولى قبل الميلاد حيث تولى داوود قيادة القبائل العبرية ويئس من محاولات إخضاع الفلسطين الذين احتفظوا بأراضيهم الممتدة على الساحل من يافا إلى حدود سيناء, وتوجه بجيوشه نحو الشمال لإخضاع ما تبقى من أرض كنعان , ولكن ليس بنفس الدموية والوحشية التي مارسها أسلافه . مملكة داوود ومن بعده ابنه سليمان دامت 73 عاماً وسيطرت لوقت قصير على المنطقة الممتدة من خليج العقبة جنوباً حتى مدينة ريبلا (قرب حمص) شمالاً ماعدا منطقة الفلسطين والمنطقة الفينيقية شمالي الكرمل وغربي جبال الجليل وجبال لبنان الوسطى.

بعد موت سليمان عام 936 قبل الميلاد تراجع النفوذ العبري واستعادت دمشق وما حولها استقلاليتها وانقسم العبريون إلى مملكتين متناحرتين , مملكة الجنوب (يهودا ) وعاصمتها أورشليم, ومملكة الشمال(اسرائيل) وعاصمتها السامرة. والخلاف بين المملكتين لم يكن سياسياً فقط , بل كان دينياً واجتماعياً كذلك. ففي الشمال كان يسكن عشرة من القبائل الاثنى عشر العبرية بين أكثرية كنعانية لم تتخلى عن ديانتها ومعتقداتها الوثنية حيث اختلط إله إبراهيم مع الآلهة الكنعانية أيل وبعل وراح الناس يصلون في نفس المعبد للإله بعل وزوجته عاشورة ولإله إبراهيم وموسى جنباً إلى جنب مما جعل سكان الجنوب (يهودا) يعتبرونهم كفار ومرتدين, يضاف إلى ذلك تأثر الشماليين بالفينيقيين واعتمادهم على الزراعة والتجارة في حياتهم أكثر من اعتمادهم على الرعي .

المملكة الجنوبية (يهودا) كان يسكنها قبيلتين عبريتين وهما قبيلة يهودا وقبيلة بنيامين , وكانوا أكثرية في منطقتهم بعد حرق مدنها وتهجير سكانها الكنعانيون على يد يشوع بن نون وأتباعه, وكانوا متعصبون دينياً ويمنعون الاختلاط والزواج مع القبائل الأخرى واعتمدوا في حياتهم على رعي المواشي والزراعة.

المملكة الشمالية انتهت عام 732 قبل الميلاد على يد الملك الآشوري تجلات بيلسر الذي احتل المنطقة وأسر الحكام والوجهاء من الإسرائيليين والكنعانيين وأخذهم مع عائلاتهم وحاشيتهم إلى شمال سوريا كعبيد. لم يمضي بضع سنوات على حملة تجلات بيلسر حتى بدأ الإسرائيليون بالتمرد على الحكم الآشوري مما دفع خليفة تجلات لتنظيم حملة جديدة بقيادة سرجون الآشوري , وهذه المرة قام سرجون بأسر جميع الرجال ولم يبقي غير العجزة والنساء والأطفال, وقادهم مقيدين بالحديد و وزعهم في جميع أرجاء المملكة الآشورية ليستخدمهم في بناء القلاع والحصون. ويروى بأن سرجون جلب قبائل آشورية وصديقة للآشوريين لتحل محلهم في شمال كنعان, ومنذ ذلك الحين انتهى أي أثر للإسرائيليين والكنعانيين معاً , مما دعا المؤرخون اليهود لأن يطلقوا على الإسرائيليين منهم (القبائل العشر المفقودة). ولكنهم أين فقدوا؟ إنهم امتزجوا بالمحيط الذي وصلوا إليه واعتنقوا ديانات وعادات جديدة وأصبحوا جزء من شعوب شمال بلاد الشام.

المملكة الجنوبية (مملكة يهودا) وافقت على دفع ضرائب للآشوريين ونجت من الدمار, وبقيت تدفع ضرائب حتى موت سرجون عام 705 ق م . بعد موت سرجون تمرد حكام يهودا على الآشوريين مما دفع بالملك الجديد سنحاريب لاجتياح يهودا ومحاصرة أورشليم عام 701 ق م , ولكنه اضطر للانسحاب بسبب انتشار مرض الجدري بين جنوده.

عام 612 ق م سقطت مدينة نينوى عاصمة الآشوريين وانتهت الإمبراطورية الآشورية على يد البابليين. بعد سقوط نينوى بثلاث سنوات استغل الفرعون المصري نيكوس الفرصة وحاول السيطرة على بلاد كنعان بما فيها مملكة يهودا, ولكن البابليون كانوا سريعون في الرد , ففي عام 605 ق م اصطدم الجيش المصري بقيادة نيكوس مع الجيش البابلي بقيادة نبوخت نصر في معركة كركميش (قرب القامشلي) وانهزم الجيش المصري. في عام 597 ق م تحالف جيكونيا ملك يهودا مع مصر ضد بابل مما دفع نبوخت نصر إلى محاصرة أورشليم واحتلالها وقيادة ملكها وحاشيته مع جميع الوجهاء ورجال الدين والموظفين إلى بابل كأسرى . في عام 586 ق م تمرد ملك يهودا من جديد مما دعا نبوخت نصر لمهاجمة أورشليم وتدمير أسوارها والقصر الملكي وإحراق الهيكل اليهودي وجر أكثر سكانها عبيداً إلى بابل. بعد سقوط أورشليم وسبي أهلها انتهت مملكة يهودا , ومع انتهائها انتهت أي سلطة سياسية وعسكرية للعبرانيين في أرض كنعان لأربعة قرون قادمة.

في عام 539 ق م سقطت بابل على يد سيروس ملك الفرس. سيروس أعطى اليهود وبقية الشعوب المستعبدة حريتهم , وسمح لليهود بالعودة إلى أورشليم, ولكن جزء قليل منهم استجاب لدعوته, وأكثرهم فضّل البقاء في بابل وبلاد فارس. عام 443 ق م استطاع نحميا بأن يقنع ملك الفرس داريوش بأن يسمح له بالعودة إلى أورشليم وبناء أسوارها من جديد بالرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها حاكم ساماريه الميدي " جنبلاط ". وفي عهد ملك الفرس أرتاكسيراكسيس عاد أحد علماء الدين اليهود إلى أورشليم وبدأ ينظم حياة اليهود الدينية, وخلال هذه الفترة (400 ق م )استطاع ما تبقى من الطائفة اليهودية في أورشليم أن يجمعوا شتاتهم وينظموا أمورهم في ظل الدولة الفارسية , ولكن وجودهم في أرض كنعان بقي ضعيفاً ومقتصراً على أورشليم. أما خارج بلاد كنعان فقد نظموا عدة مجموعات انتشرت في جميع المناطق الخاضعة للفرس, وكان أهم تلك التجمعات تجمع ألفانتين في مصر وتجمع نيبور في بلاد فارس. هذان التجمعان لعبا دوراً هاماً في استمرار اليهودية إلى يومنا هذا.

في عهد داريوش الثالث 333 ق م بدأت الامبراطورية الفارسية تضعف وتفككت وسقطت على يد اسكندر المقدوني بعد معركة إيسوس 330 ق م , وفي نفس العام احتل اسكندر المقدوني دمشق وصيدا وتوقف عند أسوار مدينة صور , وبعد حصار طويل طلب المساعدة من حاكم ساماريا "جنبلاط" الذي مده بسبعة آلاف جندي . وبعد سقوط صور اتجه إلى أورشليم ومنها إلى مصر. بعد موت اسكندر في بابل عام 323 ق م تقلصت إمبراطوريته و انقسمت إلى ثلاث إمبراطوريات, البطالمة في مصر , والسلوسيون في بلاد الشام وآسيا الصغرى , واخاه فيليب الثالث في البلقان واليونان.

أرض كنعان خضعت للبطالمة في مصر حتى عام 198 ق م وبعدها انتقلت لحكم السلوسيون في أنطاكية. خلال تلك الفترة ضعفت اللغة العبرية وبدأت تحل محلها اليونانية والآرامية كما ضعفت الديانة اليهودية بسبب انتشار الفكر والفلسفة الهيلينية مما دعا زعماء اليهود لدق ناقوس الخطر وإظهار العداء للثقافة والفكر الهيليني ولسلطة السلوسيين الذين حاولوا مزج اليهود ببقية الشعوب في المنطقة.

في عام 164 ق م ثار اليهود بقيادة يهودا المكابي وسيطروا على أورشليم, وفي عام 134 ق م استطاع أولاد يهودا المكابي من السيطرة على كافة أرض كنعان والمنطقة الواقعة شرقي البحر الميت ووادي الأردن ما عدا مدينة عسقلان التي بقيت بيد الفلسطين وأسسوا الدولة الحصمونية. سنة 104 ق م توفي ملك الحصمونيون ألإسكندر واختلف أولاده على الحكم مما دفعهم لطلب المساعدة ضد بعضهم من بومبيوس قائد الرومان , وفي عام 63 ق م دخل الرومان إلى أورشليم , وفي عام 30 ق م نصب الرومان هيرودوس الباتري ملكاً على أورشليم وما حولها مما دفع اليهود إلى التمرد على الرومان بقيادة جماعة دينية متطرفة تدعى " السلوط ", وفي عام 70 ميلادي احتل الرومان أورشليم وهدموا المعبد اليهودي وطردوا اليهود منها ومنعوهم من الدخول إليها حتى جاء الإسلام في نهاية القرن السادس الميلادي.

خلال الفترة الفارسية ومن بعدها الهيلينية تشعب اليهود إلى عدة طوائف , وهذه الطوائف يمكن جمعها في اتجاهين رئيسيين.

- الاتجاه الأول والأقوى نفوذاً كان مكوناً من طائفتين رئيسيتين , الصدوقيون والفرّيسيون . الصدوقيون يؤمنون بالتوراة فقط ويسيطرون على المعبد والشؤون الدينية, والفرّيسيون يؤمنون بالتوراة والتلمود معاً ويسيطرون على القيادة الاجتماعية والسياسية.

- الاتجاه الثاني كان مكوناً من ثلاث طوائف رئيسية , القرائون والإسينيون والبثينيون , وكان يطلق عليهم اسم مشترك ( هاشميم ) أو جماعة الاسم نسبة لعقيدتهم التي تمنعهم من الجهر باسم الخالق (الله , لفظ الجلالة) , وكانوا يقولون هاشم (الاسم) عندما يريدون ذكر الله. جماعة الاسم كانوا على خلاف عقائدي شديد مع الفرّيسيين والصدوقيين ويتهمونهم بالفسق والكفر, والتعلق بالمظاهر والطقوس , و التخلي عن جوهر الدين . فقام الفرّيسيون والصدوقيون بطردهم من أورشليم وبقية مدن يهودا وملاحقتهم والتنكيل بهم , مما أجبرهم على الإبتعاد عن المراكز السكنية الكبيرة واللجوء إلى المناطق النائية على أطراف الصحراء.

بعد احتلال الرومان لأورشليم وهدم الهيكل عام 70 ميلادي , وطرد اليهود من كافة أرض كنعان , هاجر قسم كبير من اليهود باتجاه الصحراء نحو الجزيرة العربية واليمن وشرقي وادي الأردن والبحر الميت, وقسم آخر إلى مصر وشمال إفريقيا , والميسورين مادياً منهم استطاعوا ركوب البحر إلى اليونان وأوروبا غرباً والجزيرة العربية واليمن وإثيوبيا جنوباً. والجماعات التي اتجهت إلى الصحراء كان معظمها من الهاشميين لأنهم كانوا مبعدين عن المدن ويعيشون على أطراف الصحراء. هذه الطوائف (الهاشمية) اختفت من التاريخ بعد ظهور الإسلام , وكذلك الصدوقيون, مما يدفع على الاعتقاد بأن هذه الفئات تركت اليهودية واعتنقت الإسلام منذ نشأته وأصبحت جزء من الأمة الإسلامية, ولا غرابة في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار كون سيدنا محمد نبي الإسلام هاشمياً.

حتى الآن استطعنا أن نتتبع الجزء الأكبر من القبائل العبرية. فالأسباط العشرة التي كانت تعيش في المملكة الشمالية (إسرائيل) سبيت على يد الآشوريين وامتزجت بالقبائل السامية الأخرى داخل المملكة الآشورية. والسبطين الباقيين (يهودا و بنيامين) استطعنا أن نتتبع الهاشميين منهم الذين اختفوا بعد ظهور الدعوة الإسلامية ويرجح بأنهم اعتنقوا الإسلام, يضاف إلى ذلك قبائل السلوط الفرّيسية المتعصبة التي كانت تحكم أورشليم لفترة طويلة قبل تدميرها على يد الرومان, هذه القبائل ما زالت موجودة وتحمل اسمها الأصلي حتى اليوم وتعتنق الدين الإسلامي, مما يؤكد بأن قسم لا يستهان به من اليهود الفرّيسيين والصدوقيين كذلك قد تركوا اليهودية واعتنقوا المسيحية أو الإسلام , يضاف إلى ذلك أتباع السيد المسيح الأوائل الذين كانوا جميعهم من اليهود وتركوا اليهودية.

وإذا حاولنا استخدام المنطق وبعض العمليات الحسابية البسيطة . وإذا افترضنا كذلك بأن الأسباط الاثني عشر من العبريين كانت متقاربة في عدد أفرادها . هذا يعني بأن 10 أسباط من أصل 12 سبطاً قد سبيت على يد الآشوريين وامتزجت بشعوب بلاد الشام , هذا يعني حسابياً 83% من العدد الأصلي , ومن السبطين الباقيين سكان مملكة يهودا (اليهود) الذين يمثلون 17% فقط خرج النصارى الأوائل واعتنقوا المسيحية , وتلاهم الهاشميون واعتنقوا الإسلام , هذا يوحي بأن نصفهم على الأقل خرج إلى ديانات أخرى , إذاً لم يبقى من العدد الأصلي على دين التوراة سوى 9% . وعندما نأخذ في الحسبان السلوط وغيرهم من الصدوقيون والفرّيسيين المؤكد بأنهم اعتنقوا الإسلام , إذاً, لم يبقى من العبريين الأصليين الذين يعودون في نسبهم إلى أبناء يعقوب سوى ما يقارب 5% (على أعلى تقدير) يعتنقون الديانة اليهودية . وما تبقى من سلالة يعقوب 95% اعتنقوا المسيحية أو الإسلام أو مذاهب أخرى وأصبحوا جزء من النسيج البشري لما يسمى الآن بالمنطقة العربية . وإذا كان الحال كذلك , فمن هم إذاً يهود اليوم وما هي علاقتهم بأرض كنعان وأورشليم؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نتتبع سبط يهودي جديد لا علاقة له بسلالة يعقوب و بلاد الشام " السبط 13" . وللوصول إليه يجب تتبع مذهبين من المذاهب اليهودية أثبتا قدرتهما على التقوقع والتكيف مع الظروف للمحافظة على هويتهم الدينية والعرقية. المذهب الأول هم الفرّيسيون , والمذهب الثاني هم القرائون. وهذان المذهبان أسسا مدرستان دينيتان , مدرسة ألفانتين في مصر , ومدرسة نيبور في بلاد فارس. المدرسة المصرية ساعدت على استمرارية اليهودية في حوض البحر المتوسط وشمال إفريقيا , والمدرسة النيبورية حافظت على الهوية اليهودية في العراق وبلاد فارس وعملت على نشرها في آسيا الوسطى وشرق أوروبا.

في القرن الثامن الميلادي قام شخصان من المدرسة النيبورية بنشر الدين اليهودي في بلاد الخزر بين القبائل التترية والتركمانية التي كانت تعيش بين نهري الدون والفولغا شمال القوقاز , والهدف الرئيسي من نشر اليهودية بين تلك القبائل لم يكن دينياً بحتاً , بل كان بالدرجة الأولى تجارياً لتأمين طريق القوافل والسيطرة على المحطات التجارية الهامة على طريق الحرير الذي كان يربط الصين وآسيا الوسطى بالبحر الأسود وأوروبا من سطو هذه القبائل وقطاع الطرق .

استطاع هذان الشخصان من كسب ثقة الناس في تلك البلاد ووصلت أخبارهم إلى ملك الخزر ( آغا خان يوسف) فدعاهم إليه وطلب منهم أن يشرحوا له عن عقيدتهم التي يدعون الناس إليها , وبعد أن سمع ما قالوه اقتنع بدعوتهم واعتنق اليهودية نفسه , وفرض على جميع موظفي الدولة اعتناقها , وأعلن على الناس بأن اليهودية قد أصبحت الدين الرسمي للدولة, وبذلك أصبحت دولة الخزر التترية أول دولة بعد سقوط الدولة الحصمونية تدين بالدين اليهودي وتستخدم الأحرف العبرية في الكتابة.

وتختلف الروايات حول انتشار اليهودية في بلاد الخزر , بعض المؤرخين يعزو ذلك إلى عالم يهودي يدعى ابن شبروت كان يشغل منصب وزير الدولة في الأندلس في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل , حيث أنه طلب من الجالية اليهودية في بلاد فارس إيجاد طريق بديل لطريق الحرير الذي يمر عبر أراضي الدولة العباسية التي كانت على عداء مع دولة الأمويين في الأندلس . وروايات أخرى تقول بأن ابن شبروت دخل على الخط لاحقاً بعد دخول اليهودية إلى بلاد الخزر. ولكنه يوجد رسائل ما زالت محفوظة إلى يومنا هذا أرسلها ابن شبروت إلى آغا خان يوسف ملك التتر وأخرى أرسلها ملك التتر إلى ابن شبروت, مما يؤكد علاقة ابن شبروت بآغا خان يوسف ومملكة التتر اليهودية.

دولة الخزر أنتهت في عام 965 ميلادي على يد السلافيين الروس بقيادة جنرال يدعى سفيانوسلاف , وبعد سقوط دولة الخزر تشتت يهود الخزر في روسيا وشرق أوروبا, والبحوث التاريخية تؤكد على أن الغالبية الساحقة من اليهود الأشكيناز تعود أصولهم العرقية إلى شعوب الخزر التترية والتركمانية. ويجدر بالذكر هنا أن مؤسسي الحركة الصهيونية , ومؤسسي دولة إسرائيل , وما يقارب نصف سكان دولة إسرائيل الحديثة ينتمون إلى الطائفة الأشكنازية التي لا تربطها أي علاقة تاريخية أو عرقية بمنطقة بلاد الشام أو الشعوب السامية على الإطلاق , واللغة التي يستخدمونها بينهم هي لغة بعيدة كل البعد عن اللغات السامية وتدعى لغة الإيدش وهي خليط من التترية والسلافية والألمانية .


خريطة إمبراطورية الخزر

هذه لمحة مختصرة جداً لتاريخ اليهودية بشقيها السامي والتتري التركماني.

أما ما يتعلق بتاريخ الفلسطينيين فلقد تطرقت سابقاً إلى التسمية على أنها رومانية نسبةً لقبائل الفسلطين (الأوروبية الأصل ) الذين كانوا يسكنون الشريط الساحلي بين يافا وغزة, ولكن هذه التسمية لا تعطي الصورة الحقيقية لما يسمى اليوم بأرض فلسطين وشعب فلسطين. أرض فلسطين لا حاجة للبحث عن هويتها فهي الشق الجنوبي من أرض كنعان التاريخية , ويبقى علينا أن نبحث في تاريخ الشعب الفلسطيني, ولكي نتعمق في تشخيص الهوية العرقية للفلسطينيين كما تعمقنا في تشخيص الهوية العرقية للإسرائيليين, يتحتم علينا أن نتتبع تنقلات الشعوب والأحداث التي مرت على هذه البلاد. فأول شعب نعرفه سكن هذه الأرض هم الكنعانيون ثم دخلت عليهم قبائل الفلسطين وبعدهم احتلها العبرانيون ثم اجتاحها الآشوريون وسبوا أهلها وجلبوا إليها قبائل أخرى آشورية وغير آشورية لإحكام سيطرتهم عليها , وبعد الآشوريين اجتاحتها جيوش بابل , وبعد البابليين احتلها الفرس لمدة طويلة , ثم دخلتها جيوش إسكندر المقدوني واستوطنت فيها ما يزيد على ثلاثة قرون , ثم الرومان الذين استقروا فيها ما يقارب سبعة قرون. كل هذه التغيرات السياسية والاجتماعية جلبت معها شعوب وثقافات جديدة امتزجت وتجانست على أرض كنعان. وفي نهاية القرن السادس الميلادي دخلها الإسلام , وبعد دخول الإسلام أضيف إلى هويتها لقب جديد وهو الهوية العربية , لأن لغة الإسلام كانت اللغة العربية , وبما إن لواء الإسلام لم يُحمل على أيدي عربية فقط بل اشتركت في حمله جميع القبائل السامية التي كانت تسكن بلاد الشام لأنها وجدت في الإسلام موحداً لها ومخلصاً من الاضطهاد الروماني والفارسي, و لغة الإسلام هي العربية , ورسوله عربياً, واللهجات السامية قريبة من بعضها أصبح من السهل أن تتحول هوية جميع القبائل السامية التي اعتنقت الإسلام إلى هوية عربية, وهذه الهوية لم تقتصر فقط على القبائل السامية بل شملت جميع الشعوب التي تواجدت في بلاد الشام آنذاك واعتنقت الإسلام من فلسطين وعبرانيين ويونان ورومان وفرس وغيرهم.

ستة فترات مهمة أثرت تأثيراً عميقاً على الهوية البشرية في تاريخ بلاد كنعان والشعب الفلسطيني :

- الفترة العبرية التي كانت فترة استيطانية حيث بقي المحتلون وانصهروا في النسيج الاجتماعي للمنطقة .
- الاجتياح الآشوري الذي رحّل قسم كبير من السكان الأصليين وجلب مكانهم قبائل سامية أخرى استوطنت وتزاوجت وانصهرت في النسيج الاجتماعي للمنطقة.
- الفترة الرومانية , حيث جلبت معها جنود وموظفين ومهاجرين من جميع أنحاء أوروبا . قسم كبير منهم استقر وبقي في المنطقة.
-الفترة اليونانية, تعد فترة تغييرات كبيرة في الهوية العرقية للشعب الفلسطيني وجميع شعوب بلاد الشام الواقعة في حوض البحر المتوسط. والسبب هو أن الفلسفة السياسية التي اعتمدها اسكندر المقدوني كانت مبنية على دمج الشعوب من مختلف العقائد والأعراق والثقافات . والهدف من اعتماد هذه الفلسفة كان القضاء على التعصب العرقي والديني وخلق ثقافات جديدة ومشتركة تجمع هذه الشعوب وتضع حد للحروب والدمار. ولكي يتم له ذلك بدأ اسكندر بجيش قوي مكون من عدة أعراق أوروبية هاجم به الإمبراطورية الفارسية , وبعد انتصاره عليها فتح باب التطوع في جيشه لجنود الفرس المهزومين ولشعوب المناطق التي احتلها كما فتح باب التقاعد لجنوده القدماء وبنى لهم مستوطنات ووهبهم أراضي في البلاد التي وصلوا إليها وشجعهم على التزاوج مع السكان المحليين, حتى أن اسكندر نفسه تزوج من أميرة أوزبيكية واستقر وتوفي في بابل. وعلى الصعيد الثقافي شجع اسكندر العلم واحترم العلماء وبنى مكتبة الاسكندرية لتصبح أكبر مجمع للعلم والعلماء في ذلك العصر, كما شجع تنقل الشعوب عبر الحدود الثقافية والجغرافية.
الإسكندر توفي مبكراً في بابل قبل أن ينهي مهمته , ولكن سياسته استمرت على يد خلفاؤه السلوسيون والبطالمة حتى بعد دخول الرومان إلى المنطقة.
-الفترة الإسلامية يمكن أن نقسمها إلى فترتين . الفترة الأولى قبل القرن العاشر الميلادي حيث كانت الخلافة مركزية وقوية. والفترة الثانية بعد استيلاء الصليبيون على غالبية المدن والمناطق الواقعة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط بما فيها فلسطين, وقيام الخلافة الفاطمية في مصر وشمال افريقيا مما أضعف الخلافة العباسية إلى حد أنها تحولت إلى سلطنات مملوكية تفرد بها قادة الجيوش وحكام الولايات وأصبح الخليفة مجرد واجهة لا يسيطر إلا على قصره, وانشغل حكام المقاطعات بصنع المكائد بعضهم لبعض والاقتتال فيما بينهم.

الفترة الأولى شهدت نزوح كبير من الصحراء العربية باتجاه المناطق الخصبة في شمال وغرب بلاد الشام , وهذا النزوح بدأ مع الجيوش الإسلامية الأولى التي تشكلت من القبائل العربية في شبه جزيرة العرب , ولتوطيد سيطرتهم ونشر الدين الجديد هاجرت في أعقابهم قبائل بكاملها واستوطنت تلك المناطق , وهنا دخل العنصر العربي بشكل قوي في التركيبة السكانية لمنطقة الهلال الخصيب السامية, وبعد انتشار اللغة العربية كونها لغة القرآن الكريم واضمحلال اللهجات السامية الأخرى أصبح من الصعب التمييز بين القبائل, وتحولت الهوية السامية إلى هوية عربية. بعض المجموعات المسيحية واليهودية التي لم تعتنق الإسلام استطاعت المحافظة على اللغة الآرامية كونها لغة الإنجيل واللغة العبرية كونها لغة التوراة.

الفترة الثانية شهدت دخول قبائل وشعوب أخرى غير سامية إلى المنطقة . هذه القبائل والشعوب جاءت من ثلاثة محاور , أحدها مسيحي غربي سأتركه للفقرة القادمة في الحديث عن الصليبيين, والمحورين الآخرين إسلاميين, الأصغر جاء مع الفاطميين من شمال إفريقية والأكبر جلبه العباسيون والأمويون من وسط آسيا وتركيا وايران.

بعد انتقال الخلافة إلى بني أمية وانحراف الإسلام عن مساره الحقيقي , اضطر الأمويون ومن بعدهم العباسيون إلى الاعتماد على المسلمين غير العرب لتثبيت حكمهم والسيطرة على أرجاء الخلافة الواسعة , لأن القبائل العربية كانت في غالبيتها تؤيد بقاء الخلافة في بيت الرسول وترفض تحول الخلافة إلى مَلكية وراثية لا تقوم على مبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن. لذا اتجه الأمويون والعباسيون بأنظارهم وأموالهم نحو آسيا الوسطى والصغرى وبلاد فارس لشراء زعماء العشائر والأولاد لبناء جيوشهم وحماية عروشهم من القبائل العربية . هؤلاء الأولاد الذين جُلبوا أطفالاً لحماية الخليفة وسلطته كبروا وأصبحوا قادة عسكريين ورجال دولة وسيطروا أخيراً على السلطة الحقيقية وحولوا الخلافة إلى سلطنات مملوكية متناحرة فيما بينها , ولحماية سلطناتهم و توطيد نفوذهم جلبوا لاحقاً أهلهم وعشائرهم من وسط آسيا ووطنوها في معظم المدن الكبيرة التي بسطوا نفوذهم عليها ومن بينها المدن الفلسطينية, وهذه العشائر أصبحت جزء أساسي من شعب المنطقة.

الفاطميون بدءوا بناء دولتهم على أكتاف قبائل كتامة الموريتانية في شمال إفريقيا , وعندما دخلوا مصر بجيش يزيد تعداده على مائة ألف جندي بقيادة جوهر الصقلي كان كله من المغاربة والصقليين.

قبائل كتامة بقيت العمود الفقري في جسد الدولة الفاطمية العسكري والسياسي والاجتماعي , وعلى رماحهم حملت الراية الفاطمية إلى فلسطين وسوريا, وما زالت أحياء المغاربة تحمل اسمهم في القدس ودمشق ومدن أخرى , وهؤلاء لم يرحلوا بل بقوا في المنطقة وأصبحوا جزء من شعبها.

- الفترة الصليبية لا تقل أهمية عن الفترات التي سبقتها , لأن الصليبيون سيطروا على غالبية مدن فلسطين والساحل السوري , وطردوا السكان الأصليين منها, وجلبوا سكان أوروبيين مكانهم , ولمدة ثلاثة قرون متواصلة كان ممنوع على المسلمين دخول هذه المدن والعيش فيها. وعندما أراد صلاح الدين استرجاعها لم تتحرك لمساعدته الخلافة العباسية ولا أمراء المماليك الموالين للعباسيين . بل على العكس بعضهم تحالف مع الصليبيين ضده.

صلاح الدين ورث عن الفاطميين جيشهم الذي كان يقوم على المغاربة(قبائل كتامة) والمشارقة (أسرى بيزنطيين وفرس) والسودانيين (نوبيين) وجيش عمه شركو الكردي, وفتح الباب للمتطوعين من كافة بلاد المسلمين وأجناسهم. وكان إذا استرجع مدينة من الصليبيين يؤمّن سكانها على بيوتهم وأرواحهم إذا اعتنقوا الإسلام , والعديد منهم فعل ذلك وبقي آمناً في بيته. وكذلك فعل بيبرس المملوكي حين اجتاح ما تبقى من مدن الصليبيين (مع التنويه إلى الفرق الشاسع بين وحشية بيبرس وسماحة صلاح الدين). يضاف إلى كل هذا تجارة العبيد التي كانت تعج بها المدن الصليبية. فبعد استرجاع هذه المدن تحررت العبيد واعتنقت الإسلام وأصبحت جزء من نسيج فلسطين.

إذاً , هذه هي الهوية البشرية للشعب الفلسطيني . خليط من الشعوب تم عبر تاريخ يزيد على أربعة آلاف عام , بدءً بالهجرات الكنعانية, ومروراً باستيطان عبري وآشوري ويوناني , واجتياحات بابلية وفارسية , واستعمار روماني وتركي, وهجرات عربية وآسيوية, وجيوش مصرية ومغربية ومملوكية , ومدن كبيرة كانت تعج بسكانها الصليبيين الأوروبيين والعبيد الأفارقة, بعضهم رحل ومعظمهم بقي وأصبح جزء لا يستهان به من النسيج الفلسطيني.

أما الهوية البشرية لشعب إسرائيل فقد بحثناها سابقاً وتوصلنا إلى أنه ما يقارب 95% من العبريين القدماء الذين احتلوا أرض كنعان واستوطنوها قد تشتتوا وانتشروا في بلاد الشام وتركوا العقيدة التوراتية واعتنقوا المسيحية أو الإسلام وأصبحوا جزء لا يستهان به مما أصبح اليوم يسمى بالأمة العربية , وما بقى منهم على العقيدة اليهودية(5%) شردهم البابليون والرومان في مختلف بقاع الأرض ولم يبق منهم إلا النزر اليسير على أرض كنعان.

وبعد هذه اللمحة التاريخية المختصرة عن الفلسطينيين والإسرائيليين يمكننا القول بأن ادعاء اليهود بحقهم التاريخي لما يسمى الآن أرض فلسطين أو إسرائيل هي ادعاءات باطلة وليس لها ما يدعمها حغرافياً أو تاريخياً , لأن تاريخ المنطقة المعروف يثبت وبدون أي شك بأن العبريين القدماء دخلوا إليها كمحتلين وأصولهم التاريخية تعود إلى ما بين النهرين والشعوب التي كانت مستعبدة في دلتا النيل المصرية. وإذا كان ادعائهم مبني على أن إله إبراهيم وعده بأرض كنعان وطناً له ولذريته , فالعرب كذلك هم من ذرية إبراهيم. ومما يثير الدهشة هو ادعاء اليهود الأشكيناز الأوروبيين بأن لديهم حق تاريخي في العودة إلى أرض كنعان , فهذه الطائفة من اليهود لا تمت إلى المنطقة ولا لذرية إبراهيم بأي صلة تاريخية أو عرقية أو جغرافية , وكان أجدر بهم أن يطالبوا روسيا بحقهم التاريخي في العودة إلى بلاد الخزر وآسيا الوسطى .